
في المجتمعات التي تسودها ثقافة النفاق والتخلف، يصبح قول الحقيقة فعلا محفوفا بالمخاطر، يكلف صاحبه العزلة والخسارة وربما الاضطهاد. فبينما يفترض أن تكون الحقيقة قيمة مقدسة ومطلوبة، نجدها في كثير من الأحيان سببا في استهداف صاحبها، لأن الناس بطبيعتها تميل إلى تصديق ما يرضيها، وليس ما يكشف لها عيوبها أو يهدد أوهامها.
المفكر الفرنسي غوستاف لوبون أشار في كتابه سيكولوجية الجماهير إلى أن "من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيدا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم". وهذا ما نشهده في مجتمعاتنا اليوم، حيث ينظر إلى من يكشف الحقائق على أنه شخص مزعج، متمرد، وربما خائن، بينما يحتفى بمن يجيد تزييف الواقع وتقديم الأكاذيب المغلفة بالأمل والخداع.
أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فقد حذر من السذاجة في الاعتقاد بأن قول الحقيقة سيقرب الإنسان من الآخرين، مشيرا إلى أن الجماهير تحب من يخدرها بالأوهام، وتعاقب من يوقظها من سباتها. وهذا ما يفسر لماذا يكون مصير الصادقين في كثير من الأحيان التهميش أو العزلة، بينما يحظى المتلاعبون بالمكانة والنفوذ.
وهنا تسائل لماذا ترفض المجتمعات المتخلفة الحقيقة؟
الاعتراف بالحقيقة قد يكون مؤلما، لذا يفضل الكثيرون البقاء في حالة إنكار بدلا من مواجهة واقعهم ، لأن الحقيقة غالبا ما تستدعي التغيير، وهو أمر يهابه الإنسان بطبيعته، لأنه يعني الخروج من دائرة الراحة لأن في كثير من المجتمعات، تعتبر الحقيقة تهديدا لسلطات قائمة على التزييف والتضليل، وبالتالي تتم محاربة كل من يحاول كشفها و الفرد الذي يحاول السباحة عكس التيار غالبا ما يواجه رفضا من المجتمع، الذي يفضل البقاء موحدًا حتى لو كان على خطأ.
يبقى قول الحقيقة خيارا شجاعا لكنه مكلف، فمن يقرر أن يكون صادقا عليه أن يكون مستعدا للعزلة وربما للخسارة. ومع ذلك، فإن التاريخ يخبرنا أن العظماء لم يكونوا ممن خدروا مجتمعاتهم بالأكاذيب، بل كانوا أولئك الذين تحدوا السائد، وكشفوا الحقيقة، حتى لو دفعوا حياتهم ثمنا لذلك. ربما يكره الناس الحقيقة اليوم، لكنهم في الغد سيدركون قيمتها، لأن الحقيقة وإن تم قمعها، تظل قادرة على الظهور، مهما طال الزمن.