الدهاء في السياسة - محمد الخضر حسين

سبت, 12/07/2019 - 10:42

ﺍﻟﺪﻫﺎﺀ : ﺟﻮﺩﺓ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺪﻳﺮ ﻧﻈﺎﻣًﺎ، ﺃﻭ ﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻭﺟﻪ ﻗﻀﻴﺔ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﻟﻄﻴﻒ، ﻓﻐﻴﺮ ﺍﻟﺪﺍﻫﻴﺔ ﻳﻨﺒﺬ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﻋﻠﻰ ﺳﻮﺍﺀ؛ ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺳﺠﺎﻟًﺎ، ﻭﺍﻟﺪﺍﻫﻴﺔ ﻳﻨﺼﺐ ﻟﻪ ﺍﻟﻤﻜﻴﺪﺓ، ﻓﻴﻘﻊ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻊ ﺍﻷﺳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺰﺑﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻴﻘﺔ، ﻭﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺩﺍﻫﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﺸﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﺮﺽ ﺇﻻَّ ﻋﻠﻰ ﺧﻂ ﻣﺴﺘﻘﻴﻢ، ﻓﺈﺫﺍ ﺍﻋﺘﺮﺿﺘﻪ ﻋﻘﺒﺔ ﻛﺆﻭﺩ ﻭﻗﻒ ﻓﻲ ﺣﻴﺮﺓ ﺃﻭ ﺭﺟﻊ ﻋﻠﻰ ﻋَﻘِﺒﻪ ﻳﺎﺋﺴًﺎ، ﻭﺍﻟﺪﺍﻫﻴﺔ ﻳﺴﻴﺮ ﻓﻲ ﺧﻂٍّ ﻣﻨﺤﻦٍ ﺃﻭ ﻣﻨﻜﺴﺮٍ ﻭﻻ ﻳﺒﺎﻟﻲ ﺑﻄﻮﻝ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﺜﻘﺔ ﺑﺈﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺑﺔ .
ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺪﻫﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﻓﻄﺮﺓ ﺍﻟﺬﻛﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺗﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﻐﺎﻣﻀﺔ، ﻭﺳﻬﻮﻟﺔ ﻧﻔﻮﺫ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺎﺻﺪ ﺍﻟﺨﻔﻴﺔ .
ﻭﺍﻹﻓﺮﺍﻁ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﺪ ﻋﻴﺒًﺎ ﻓﻲ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﺧﺘﻄﺎﻑ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻷﻣﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺗﺜﺒﻴﺖ ﻓﻲ ﻣﺄﺧﺬﻫﺎ، ﺃﻭ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺑﻜﻨﻬﻬﺎ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﻓﻴﻤﻦ ﺗﻀﺮﺏ ﺃﺷﻌﺔ ﻓﻜﺮﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪﺓ ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻻ ﻳﻄﻴﻞ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭﻫﺎ ﺃﻭ ﻳﺴﺘﻮﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺁﺛﺎﺭﻫﺎ .
ﻓﻤﻦ ﻟﻢ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺑﻔﻜﺮ ﺛﺎﻗﺐ، ﺿﺎﻉ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﻛﺜﻴﺮٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ، ﻭﻭﻗﻊ ﻓﻲ ﺷﺮﺍﻙ ﺍﻟﺨﺪﺍﻉ ﻭﺍﻟﻤﺨﺎﺗﻠﺔ، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﺃﻣﺔ ﻗﻀﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑَﻠَﻪُ ﺯﻋﻤﺎﺋﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﻫﺎﻭﻳﺔ ﺍﻟﺬﻝ ﻭﻧﻜﺪ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ . ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺍﺳﺘﻘﺎﻡ ﻇﻬﺮ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻟﻌﻬﺪ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎﻥ - ﻣﻊ ﺳﻼﻣﺔ ﺿﻤﻴﺮﻩ ﻭﺻﻔﺎﺀ ﺳﺮﻳﺮﺗﻪ - ﻧﺎﻓﺬَ ﺍﻟﺒﺼﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﺑﻌﻴﺪَ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻋﻮﺍﻗﺒﻬﺎ .
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﻐﻴﺮﺓ ﺑﻦ ﺷﻌﺒﺔ : ﻛﺎﻥ ﻋﻤﺮ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳَﺨْﺪَﻉ، ﻭﺃﻋْﻘَﻞ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳُﺨﺪَﻉ .
ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﻨﻮﻥ ﺷﺘﻰ، ﻭﺍﻟﺒﺮﺍﻋﺔ ﻓﻲ ﻛﻞِّ ﻓﻦٍّ ﺗﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺍﻷﺧﺬ ﺑﻤﺒﺎﺩﺋﻪ، ﻭﺍﻟﺪﺭﺑﺔِ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﻟﻜﻪ، ﻓﻬﺬﺍ ﺧﺒﻴﺮ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔِ ﺍﻟﺤﺮﺏ، ﻭﺑﺼﻴﺮﺗُﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻋﺸﻮﺍﺀ، ﻭﺁﺧﺮ ﻳﺪﻳﺮ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ، ﻭﻳﺠﺮﻱ ﺍﻟﻨﻈﺎﻣﺎﺕِ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻣﺔ ﻓﻲ ﺃﺣﻜﻢ ﻧﺴﻖ، ﻓﺈﺫﺍ ﺧَﺮَﺟْﺖَ ﺑﻪ؛ ﻟﻴﺨﻮﺽ ﻓﻲ ﺻﻠﺔ ﺃﻣﺔ ﺑﺄﺧﺮﻯ ﺿﺎﻗﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺴﺎﻟﻚ ﺍﻟﺮﺃﻱ، ﻭﺗﻠﺠﻠﺞ ﻟﺴﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﻟُﻜْﻨَﺔ، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺟﻨﺢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴِﻠﻢ ﻭﺍﻟﺤﺮﺏُ ﺃﺷﺮﻑ ﻋﺎﻗﺒﺔ، ﺃﻭ ﺃَﺫَّﻥ ﺑﺤﺮﺏ ﻭﺍﻟﺼﻠﺢُ ﺃﻗﺮﺏ ﻭﺳﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺍﻷﻣﺔ؛ ﻓﻼ ﺑُﺪَّ ﻟﻠﺪﻫﺎﺀ ﻓﻲ ﻓﻦٍّ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺳﻨﻨﻪ، ﺇﻣَّﺎ ﺑﺘﻘﻠﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻭﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻪ ﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﻋﻴﻦ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﻤﻠﻮَّﺡ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺑﻘﻮﻝ ﺃﺑﻲ ﺗﻤﺎﻡ :
ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳُﻘَﺪ ﻓﻴﻄﻴﺮ ﻓﻲ ﺧﻴﺸﻮﻣﻪ ﺭﻫﺞُ ﺍﻟﺨﻤﻴﺲ ﻓﻠﻦ ﻳﻘﻮﺩ ﺧﻤﻴﺴﺎ
ﺃﻭ ﺑﺘﻠﻘﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﻨﻘﻞ، ﻛﺪﺭﺍﺳﺔ ﻓﻦ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﺃﻭ ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﻤﺆﻟﻔﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻔﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺧﺎﺻﺔ .
ﻭﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﻣﺰﻳﺔ ﺍﻟﺪﻫﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﺇﻻ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ ﻛﺘﻢُ ﺗﺄﺛﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻣﻦ ﻏﻀﺐ ﻭﺳﺮﻭﺭ، ﻭﻣﻮﺩَّﺓ ﻭﺑﻐﻀﺎﺀ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻷﺩﺑﺎﺀ : ﺇﻥَّ ﺃﺣﻜﻢ ﺑﻴﺖ ﻗﺎﻟﺘﻪ ﺍﻟﻌﺮﺏ :
ﻭﻟَﺮُﺑَّﻤﺎ ﺍﺑﺘَﺴَﻢ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢُ ﻣﻦ ﺍﻷﺫﻯ ﻭﻓُﺆَﺍﺩُﻩ ﻣِﻦْ ﺣَﺮِّﻩ ﻳَﺘَﺄَﻭَّﻩُ
ﻓﺄﻧﺎﺓ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻭﺭﺻﺎﻧﺘﻪ ﻫﻲ ﺍﻟﻤﻨﺒﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﺗُﺴﻘﻰ ﻣﻨﻪ ﺍﻷﻣﺔُ ﺣﺮﻳﺔَ ﺍﻟﻔﻜﺮ، ﻭﺍﻟﺴُّﻠَّﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻌﺮﺝ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻓﻖ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻦ ﻭﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ .
ﺗﺴﻤﺢ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﺤﺮﺓ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍﻟﺨﻄﺒﺎﺀ ﺃﻥ ﻳﻜﺸﻔﻮﺍ ﻋﻤﺎ ﻓﻲ ﺿﻤﺎﺋﺮﻫﻢ ﻭﻳﺠﻬﺮﻭﺍ ﺑﺂﺭﺍﺋﻬﻢ، ﻭﺗﺴﻴﺮُ ﻣﻌﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺒﺪﺃ ﺃﻥَّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﺣﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﺁﺭﺍﺋﻬﻢ ﻭﻋﻮﺍﻃﻔﻬﻢ .
ﻓﻼ ﻳﺴﺄﻟﻮﻥ ﻋﻨﻬﺎ، ﺃﻭ ﻳﺆﺍﺧﺬﻭﻥ ﺑﻬﺎ ﻣﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺒﺎﻳﻨﺔ ﻟﻤﻘﺎﺻﺪ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ، ﺃﻭ ﻣﻌﺎﺭﺿﺔ ﻟﻤﺬﻫﺒﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﺇﻻَّ ﺇﺫﺍ ﻭﺿﻌﻮﺍ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﻓﻲ ﺇﺟﺮﺍﺋﻬﺎ، ﻭﺍﻧﺪﻓﻌﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺎﺫﻫﺎ .
ﺗﻌﺪُّ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﺒﺎﻟﻐﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪ ﻓﻲ ﺣﺴﻨﺎﺕ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ، ﻭﻗﺪ ﺃﺩﺍﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻣﺮﺍﺀ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺭﺣﻰ ﺳﻴﺎﺳﺘﻬﻢ ﻣﻨﺬ ﺃﻟﻒ ﻭﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ؛ ﻓﻬﺬﺍ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ : ﻭﺍﻟﻠﻪ، ﻻ ﺃﺣﻤﻞ ﺍﻟﺴﻴﻒ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻻ ﺳﻴﻒ ﻟﻪ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻨﻜﻢ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻔﻲ ﺑﻪ ﺍﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﻠﺴﺎﻧﻪ، ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ﺩﺑﺮ ﺃﺫﻧﻲ، ﻭﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ .
ﻳﺘﻠﻘﻰ ﺍﻷﻣﺮﺍﺀ ﻧﻘﺪ ﺳﻴﺎﺳﺘﻬﻢ ﻭﺁﺭﺍﺋﻬﻢ ﺑﺼﺪﺭ ﺭﺣﺐ، ﻭﻛﺜﻴﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﺇﺫﺍ ﺃﻧﺲ ﻓﻲ ﺍﻷﻣﺔ ﺗﻬﻴﺒًﺎ ﻛﺮﻩ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻬﻴﺐ ﺭﻫﺒﺔً ﺗﺠﺮﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺇﻳﺜﺎﺭ ﺍﻟﺨَﻠﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻳﺪﻋﻮﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺩﻋﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ : ﺃﻳﻤﺎ ﺭﺟﻞ ﻋﺘﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﺧﻠﻖ ﻓﻠﻴﺆﺫِﻧِّﻲ . ﺃﻱ ﻓﻠﻴﻌﻠﻤﻨﻲ .
ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻷﻫﻞ ﻧﺎﺩﻳﻪ ﺇﺫﺍ ﺟﺎﺭَﻭﻩ ﻓﻲ ﻛﻼﻡ : ﻫﻼَّ ﺳﺄﻟﺘﻤﻮﻧﻲ ﻟﻤﺎﺫﺍ ؟ ﻓﺈﻥَّ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮﺓ ﺃﺛﺒﺖ ﻣﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻬﺎﺑﺔ .
ﻳﻄﻠﻖ ﺍﻷﻣﺮﺍﺀ ﺍﻟﻌﺎﺩﻟﻮﻥ ﻟﻶﺭﺍﺀ ﺃﻋﻨَّﺘﻬﺎ؛ ﻟﺘﻌﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﻱ ﺻﺒﻐﺔ ﺷﺎﺀﺕ، ﻭﻳﺜﻘﻮﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺴﺎﻣﺢ ﺑﺄﻥ ﺃﻣﺎﻣﻬﺎ ﺃﻓﻜﺎﺭًﺍ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ، ﻭﻋﻘﻮﻟًﺎ ﺭﺍﺟﺤﺔ، ﻓﺘﻘﺒﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻧﺎﺻﻌﺔ، ﻭﺗﺮﺩ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﺒﻪ ﺧﺎﺋﺒًﺎ .
ﻳﺪﻭﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻟﺴﻨﺔ ﻗﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺗﺎﺭﻳﺨﻪ : ﺇﻥَّ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺃﺑﻌﺪ ﺍﻷﻣﻢ ﻋﻦ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟـﻤُﻠْﻚ .
ﻳﻠﻬﺞ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺎﻟﺔ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﻋﺠﻤﻴﻦ ﺭﺍﻣﺰﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺃﻥَّ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻻ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺸﻮﺍ ﻛﻤﺎ ﻳﻌﻴﺶ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ، ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﻳﺪﻳﺮ ﻣﺼﻠﺤﺘﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﻭﺗﺒﺴﻂ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﺍﻟﻨﻜﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﻗﺎﺋﻠﺔ : ﻛﻴﻒ ﻳﺼﻒ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﺎﺩﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺑﺎﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻣﺬﺍﻫﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ؟ .
ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﺩ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺎﻟﺔ ﻣﻦ ‏( ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ‏) ﻳﺠﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﺫﻛﺮ ﺃﻥَّ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﻓﻲ ﺑﻌﺪﻫﻢ ﻋﻦ ﺇﺟﺎﺩﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻋﺘﻴﺎﺩﻫﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺪﺍﻭﺓ، ﻭﻧﻔﻮﺭﻫﻢ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ، ﻭﺍﺣﺘﻴﺎﺝ ﺭﺋﻴﺴﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻭﻋﺪﻡ ﻣﺮﺍﻏﻤﺘﻬﻢ، ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺴﺎﺋﺲ ﻭﺍﺯﻋًﺎ ﺑﺎﻟﻘﻬﺮ .
ﺛﻢ ﺻﺮَّﺡ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﻧﻔﺴﻪ، ﺑﺄﻥَّ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﺔ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻃﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻹﺳﻼﻡ، ﻭﻓﺘﺢ ﺃﺑﺼﺎﺭﻫﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﻫﺞ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﻌﺎﺩﻟﺔ ﺳﺎﺭﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﻘﺎﻣﺔ، ﻓﻌﻈﻢ ﻣﻠﻜﻬﺎ، ﻭﻗﻮﻱ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ .
ﻭﻳﻮﺍﻓﻖ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺃﻥَّ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺑﻌﺪ ﻣﻄﻠﻊ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺍﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﺃﻥ ﺳﻌﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻭﻗﺎﺹ ﺃﺭﺳﻞ ﻧﻔﺮًﺍ ﻣﻨﻬﻢ ﺍﻟﻤﻐﻴﺮﺓ ﺑﻦ ﺯﺭﺍﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻳﺰﺩﺟﺮﺩ ﻓﺪﺍﺭﺕ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻨﻬﻢ ﻣﺤﺎﻭﺭﺓ ﺃﻓﺼﺢ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺁﺧﺮﻫﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﺠﺒﻪ ﻣﻦ ﻇﻬﻮﺭﻫﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻈﻬﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﺑﻤﻜﺎﻧﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﻞ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻤﻐﻴﺮﺓ : ﺇﻥ ﻣﺎ ﻭﺻﻔﺖ ﺑﻪ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﻞ ﻫﻮ ﺣﻖ، ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻗﺒﻞ ﺍﻹﺳﻼﻡ . ﻭﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺍﻧﺼﺮﻓﻮﺍ ﻗﺎﻝ ﻟﻘﺎﺋﺪﻩ ﺭﺳﺘﻢ : ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﺃﺭﻯ ﺃﻥَّ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻣﺜﻞ ﻫﺆﻻﺀ، ﻣﺎ ﺃﻧﺘﻢ ﺑﺄﺣﺴﻦ ﺟﻮﺍﺑًﺎ ﻣﻨﻬﻢ .
ﺭﻛﺒﺖُ ﻣﺮﺓ ﺍﻟﻘﻄﺎﺭ ﻣﻦ ﺑَﺮْﻟِﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﺇﺣﺪﻯ ﻗﺮﺍﻫﺎ ﺍﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺭﻓﻘﺘﻲ ﺃﺳﺘﺎﺫﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﺮﻗﻴﻦ، ﻓﺄﺧﺬﺍ ﻳﺘﺤﺎﻭﺭﺍﻥ ﺑﺎﻟﻠﺴﺎﻥ ﺍﻷﻟﻤﺎﻧﻲ، ﻭﻟﻢ ﺃﻛﻦ ﺃﻓﻘﻪ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻠﺴﺎﻥ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺷﻴﺌًﺎ، ﺛﻢ ﺃﻗﺒﻞ ﻋﻠﻲَّ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻲ : ﺃﻟﻴﺲ ﻫﻜﺬﺍ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ؟ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ : ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺼﻒ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺟﺎﻫﻠﻴﺘﻬﻢ، ﻭﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻬﺘﺪﻭﺍ ﺑﻬﺪﻱ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻭﻳﺴﺘﻨﻴﺮﻭﺍ ﺑﺤﻜﻤﺘﻪ، ﻓﺎﻧﻘﻄﻊ، ﻭﻋﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﺎﻭﺭﺓ ﺻﺎﺣﺒﻪ .
ﻭﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺟﺎﻫﻠﻴﺘﻪ، ﺭﺁﻩ ﻣﻄﺒﻮﻋًﺎ ﻋﻠﻰ ﺧﺼﻠﺘﻴﻦ ﻳُﻄﻮِّﺡ ﺑﻪ ﺍﻟﻐﻠﻮ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻭﺭﺍﺀﻩ ﻏﺎﻳﺔ :
ﺇﺣﺪﺍﻫﻤﺎ : ﺍﻧﺪﻓﺎﻋﻪ ﻟﻼﻧﺘﻘﺎﻡ ﻣﻤﻦ ﻫَﻀَﻢَ ﻟﻪ ﺣﻘًّﺎ، ﺃﻭ ﻣﺲَّ ﺟﺎﻧﺒﻪ ﺑﺄﺫﻯ .
ﻭﺣُﺴْﻦُ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺘﺄﻧﻲ، ﻭﺍﻹﻏﻀﺎﺀ ﻋﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻬﻔﻮﺍﺕ .
ﺛﺎﻧﻴﺘﻬﻤﺎ : ﺇﻃﻼﻗﻪ ﻷﻳﺪﻱ ﺷﻴﻌﺘﻪ ﻭﻋﺸﻴﺮﺗﻪ، ﻭﻏﺾُّ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﻋﻨﻬﻢ ﺇﺫﺍ ﺃﺧﺬﻫﻢ ﺍﻻﻋﺘﺰﺍﺯ ﺑﺠﺎﻫﻪ، ﻭﺍﺿﻄﻬﺪﻭﺍ ﺣﻖ ﺿﻌﻴﻒ ﻻ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻴﻪ .
ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺗﻨﺎﻓﻲ ﺍﻹﻓﺮﺍﻁَ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﺿﺪﺓ ﺍﻷﺷﻴﺎﻉ ﻭﺍﻷﺣﻼﻑ، ﻭﻻ ﺗﺴﺘﻘﻴﻢ ﻣﻊ ﺍﻻﻧﺘﺼﺎﺭ ﻭﻫﻢ ﻣﺒﻄﻠﻮﻥ .
ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻭﻣﺖ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻫﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺘﻴﻦ، ﻭﺟﺎﻫﺪﺕ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﺣﻖَّ ﺟﻬﺎﺩﻫﺎ، ﺣﺘﻰ ﺃﻋﺪَّﺕ ﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺃﺳﺎﺗﺬﺓ ﻣﺜﻞ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﺮﺍﻋﻲ ﻓﻲ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺍﻟﺤﻖِّ، ﻭﻛﺒﺢ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﺃﺷﺪَّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻪ ﺻﻠﺔ، ﻭﺃﻣﺴَّﻬﻢ ﺑﻪ ﺭﺣﻤًﺎ .
ﻭﻣﺜﻞ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳُﺮﻣﻰ ﺑﺎﻟﻤﻄﺎﻋﻦ، ﻭﻳﺮﺷﻖ ﺑﺴﻬﺎﻡ ﺍﻹﻧﻜﺎﺭ، ﻓﻴُﺴﺮُّﻫﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻻ ﺗﺒﺪﻭ ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﻐﻴﻆ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺨﺒﻂ ﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪﻳﻦ .
ﻭﻣﻦ ﺩﻫﺎﺀ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻌﺰﻳﺰ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻟﻠﺮﻋﻴﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﻠﻚ ﻓﻲ ﺇﺟﺮﺍﺋﻬﺎ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻤﻬﻞ ﻭﺍﻟﺘﺪﺭﻳﺞ؛ ﺣَﺬَﺭَ ﺃﻥ ﻳﺜﻘﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻋﺒﺆﻫﺎ، ﻓﻴﻄﺮﺣﻮﻫﺎ ﻋﻦ ﻇﻬﻮﺭﻫﻢ، ﻭﻳﻘﻌﻮﺍ ﻓﻲ ﻋﺎﻗﺒﺔ ﺳﻴﺌﺔ .
ﻗﺎﻝ ﺍﺑﻨﻪ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﻠﻚ : ﻣﺎ ﻟﻚ ﻻ ﺗُﻨَﻔِّﺬ ﺍﻷﻣﻮﺭ؟، ﻓﻘﺎﻝ : ﻻ ﺗﻌﺠﻞ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ؛ ﻓﺈﻧﻨﻲ ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺃﺣﻤﻞ ﺍﻟﺤﻖَّ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺟﻤﻠﺔ؛ ﻓﻴﺪﻓﻌﻮﻩ، ﻭﺗﻜﻮﻥَ ﻓﺘﻨﺔ .
ﻓﻼ ﻳﺨﺮﺝ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻋﻦ ﻣﺠﺮﻯ ﺍﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﺳﻴﺮﺓ ﺍﻷﻣﺔ ﻋﻮﺟًﺎ ﻳﺘﻌﺬﺭ ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻘﻮﻳﻤﻪ ﺑﺎﻟﻘﻮﺓ؛ ﻓﻴﺤﺠﻢ ﻋﻦ ﻣﻜﺎﻓﺤﺘﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﻳﺒﺬﻝ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻓﻲ ﻋﻼﺝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻟﺴﻘﻴﻢ، ﺣﺘﻰ ﻳﺄﺧﺬ ﺻﺤﺘﻪ ﻭﻟﻮ ﺑﻌﺪ ﺃﻣﺪ ﻃﻮﻳﻞ .
ﻭﻗﺪ ﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﻲ ﻋﻬﺪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻻ ﺗﺒﺎﻟﻲ ﺃﻥ ﺗﻤﺮَّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻖِّ، ﻭﻟﻮ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺯﻳﺎﺩ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺧﻄﺒﻪ : ﻗﺪ ﻋﻠﻤﻨﺎ ﺃﻧَّﺎ ﻻ ﻧﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻖِّ ﺇﻟَّﺎ ﺃﻥ ﻧﺨﻮﺽ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﺧﻮﺿًﺎ .
ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ : ﺇﻥ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺃﺑﻌﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﻣﺬﺍﻫﺒﻬﺎ .
ﻭﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺎﻟﺔ، ﺃﻧﻬﻢ ﻣﻌﺘﺎﺩﻭﻥ ﻓﻲ ﺳﺎﺋﺮ ﺃﻧﻈﺎﺭﻫﻢ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺍﻟﺬﻫﻨﻴﺔ، ﻭﺍﻷﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮﻥ ﺳﻮﺍﻫﺎ، ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺍﻋﺎﺓ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ، ﻭﻣﺎ ﻳﻠﺤﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ، ﻭﻳﺘﺒﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻵﺛﺎﺭ .
ﻭﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬﺍ ﺃﻥَّ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻻ ﻳﻌﻮﻕ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺃﻥ ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﻘﺼﻮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗَﻘْﻌُﺪَ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺒﺮﺍﻋﺔ ﻓﻲ ﺗﺪﺑﻴﺮ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺍﻧﻜﺒﺎﺑﻪ ﻭﻋﻜﻮﻓﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ، ﻭﻣﺎ ﻳﺘﻔﺮﻉ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻀﻴﻒ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻌﺼﺮ، ﻭﻳﻔﺤﺺ ﻋﻤﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﻢ، ﻭﺗﺴﺘﺪﻋﻴﻪ ﺣﺎﺟﺘﻬﻢ، ﻭﻳﻐﻮﺹ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ؛ ﻓﻴﺘﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ، ﻭﻣﺎ ﺗﺼﻴﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﺎﻗﺒﺘﻬﺎ .
ﻓﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺃﻧﻔﻘﻮﺍ ﺃﻭﻗﺎﺗﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﻀﺮﺑﻮﺍ ﺑﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻭﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻐﺎﻟﺒﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻫﻢ ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﻭﻣﺎ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﺑﺰﻣﻦ ﻃﻮﻳﻞ، ﻭﻻﺳِﻴَّﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻭﻗﻔﻮﺍ ﺩﻭﻥ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩ، ﻭﺗﻬﺎﻭﻧﻮﺍ ﺑﺎﻟﺸﻄﺮ ﺍﻷﻫﻢ ﻣﻦ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﻢ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺻﻼﺡ ﺃﻳﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ .
ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻘَﺪِّﺭﻭﻥ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﻢ ﺣﻖَّ ﻗﺪﺭﻫﺎ، ﻭﻳﻘﻮﻣﻮﻥ ﺑﻤﺎ ﻗﻠَّﺪﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﻗﺒﺔ ﺳﻴﺮ ﺍﻷﻣﺔ ﻭﺇﺭﺷﺎﺩﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻔﻼﺡ ﻋﻦ ﻓﻜﺮﺓ ﺳﻠﻴﻤﺔ، ﻭﺃﻟﻤﻌﻴﺔ ﻣﻬﺬﺑﺔ، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺴﺒﻘﻮﻥ ﺑﻼ ﺭﻳﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﻘﻴِّﻤﺔ، ﻭﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻋﺜﺮﺓ ﺗﻬﻮﻱ ﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻠﻪ ﻭﺍﻟﺠﻬﻞ ﺑﺘﺪﺑﻴﺮ ﺷﺆﻭﻥ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﻛﻤﺎ ﻳﺪﻋﻲ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﻤﻌﻮﻥ ﺃﻭ ﻳﺴﺮﺩﻭﻥ ﻣﻘﺎﻟﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﺗﺪﺑﺮ ﻭﺭﻭﻳﺔ .
ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻮﺯﻳﺮ ﺍﻟﺘﻮﻧﺴﻲ ﺧﻴﺮ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﺎﺷﺎ ﻳﻌﻘﺪ ﻣﺠﺎﻟﺲ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎﺀ ﺟﺎﻣﻊ ﺍﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ، ﻭﻳﻠﻘﻲ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺸﻮﺭﻯ ﻣﺎ ﻳﻬﻤﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻓﻴﺘﻨﺎﻭﺑﻮﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻭﺍﻟﻨﻈﺮ، ﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﻧﻄﻖ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺑﺮﺃﻱ ﻳﺼﻴﺐ ﺑﻪ ﺍﻟﻤﻔﺼﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﺍﻫﺘَﺰَّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺯﻳﺮ ﺍﺭﺗﻴﺎﺣًﺎ، ﻭﺿﺮﺏ ﻳﻤﻨﺎﻩ ﻋﻠﻰ ﻳﺴﺮﺍﻩ ﻗﺎﺋﻠًﺎ : ﻻ ﺗﺘﻘﺪﻡ ﺃﻣﺔ ﺇﻻ ﺑﻌﻠﻤﺎﺋﻬﺎ